
أسامة داود يكتب: عبد الناصر بين تهمة الإلحاد وشهادة ضياء الدين داود
 (1).jpg )
كيف فتح الزعيم الباب للأزهر فى قلب الاتحاد السوفيتي؟
زعيم بين الأسطورة والاتهام
منذ رحيله فى سبتمبر 1970، لم يتوقف الجدل حول شخصية الرئيس جمال عبد الناصر. البعض يراه زعيمًا وطنيًا قاد مشروع استقلال حقيقى وأعاد لمصر كرامتها، والبعض الآخر يصوره كديكتاتور صادر الحريات وأغرق البلاد فى هزيمة عسكرية. لكن الاتهام الأخطر الذى حاول خصومه إلصاقه به كان "الكفر والإلحاد"، استنادًا إلى تحالفه الوثيق مع الاتحاد السوفيتي، الدولة الشيوعية التى اعتبرت الدين "أفيون الشعوب".
غير أن شهادة من رجل دولة بحجم ضياء الدين داود – وزير شئون مجلس الأمة ، وعضو مجلس الأمة ووزير الشئون الاجتماعية الاسبق، ثم رئيس الحزب الناصري منذ بداية التسعينيات وحتى رحيله فى 2011– تحمل وزنًا خاصًا.
داود لم يكن شاهدًا عابرًا، بل عاش تفاصيل التجربة، وكان من أقرب المقربين لعبد الناصر. وما رواه لى فى أحد الايام ردا على تساؤلاتى عن عبد الناصر وما لانعرفه عن هذا الزعيم - وكنت فى طريقى معه الى لقاء بأحد الوزراء وكنت انا من حدد الموعد وكان يقود سيارته بنفسة والتى تحمل لوحات معدنية 777 دمياط - من واقعة إنسانية وسياسية معًا يكشف عن وجه آخر للزعيم، وجه المؤمن الحريص على الدين.
المصحف الذى هزّ وجدان عبد الناصر
قال لى أنه فى إحدى زياراتى الرسمية إلى الاتحاد السوفيتي وكنت احمل رسالة من الرئيس عبد الناصر الى نظيره السوفيتى، وكنت اتنقل فى سيارة خصصت لى يقودها سائق وإلى جواره مترجم. وبينما كنت أقرأ من مصحف صغير لا يفارقنى، التفت السائق قائلاً عبر المترجم:
"أمى تتمنى أن تمتلك مصحفًا قبل أن تموت، فقد حُرمنا هنا من ممارسة شعائر الدين"
داود لم يتردد. مد يده بالمصحف الصغير وقال: "هذه هدية منى إلى والدتك".
كانت لحظة عابرة لكنها عكست مأساة ملايين المسلمين داخل جمهوريات الاتحاد السوفيتي، حيث لم يكن مسموحًا بأى مظهر دينى، لا مساجد عامرة ولا مصاحف متداولة، وكل ما يربط الناس بدينهم كان يتوارى سرًا.
غضبة عبد الناصر وقرار تاريخى
يقول لى عند عودتى إلى القاهرة، وكان الزعيم يطلب من أى مبعوث نقل كل ما صادفه فى رحلته من أمور .. فسرد داود القصة لعبد الناصر. وهنا – كما يصف – تغير وجه الزعيم وتأثر بعمق. استدعى مدير مكتبه فورًا وطلب الاتصال بشيخ الأزهر.
جاء صوت الإمام عبر الهاتف، فسأله عبد الناصر مباشرة:
ألا وجود للأزهر فى الاتحاد السوفيتي لتعليم المسلمين أمور دينهم؟
فأجاب: "يا سيادة الرئيس، غير مسموح لنا بالتواجد هناك".
حينها انفجر عبد الناصر: لن أترك مكتبى حتى أتحدث مع الرئيس السوفيتي نفسه.
وبالفعل، جرى الاتصال مع القيادة السوفيتية. نقل عبد الناصر مطلبه الصريح:
أريد أن يتواجد الأزهر الشريف لتعليم المسلمين دينهم، وأن تُترجم معانى القرآن الكريم إلى لغات شعوب الاتحاد السوفيتي.
وجاءت الموافقة غير المسبوقة: الأزهر يدخل الاتحاد السوفيتي ببعثاته العلمية، ويبدأ العمل على ترجمة معانى القرآن إلى لغات محلية. كان ذلك خرقًا لجدار أيديولوجى صلب، وانتصارًا للدين فى قلب أكبر قوة شيوعية فى العالم.
الأزهر كأداة دبلوماسية ناعمة
لم يكن الأمر حدثًا عابرًا، بل جزءًا من رؤية عبد الناصر لدور الأزهر فى السياسة الخارجية. فمنذ توليه السلطة، أعاد للأزهر مكانته، وأقر قانون تطويره عام 1961 الذى وسّع من مجالات دراسته لتشمل العلوم الحديثة بجانب العلوم الشرعية. كما دعم إرسال بعثات أزهرية إلى أفريقيا وآسيا، لتمثل مصر كقوة روحية وثقافية إلى جانب قوتها السياسية والعسكرية.
وفى سياق الحرب الباردة، كان لعبد الناصر إدراك بأن الإسلام يمكن أن يكون أداة قوة ناعمة لمصر فى مواجهة التغلغل الغربى، وأن الأزهر قادر على ربط ملايين المسلمين بمصر لا بالغرب. لذا، لم يتردد فى مواجهة الاتحاد السوفيتي بمطلب بدا صادمًا لقيادة شيوعية، لكنه حصل عليه بفضل الله أولا ثم بوزنه الدولى وعلاقته الشخصية.
وضع المسلمين فى الاتحاد السوفيتي
للتاريخ، لم يكن وضع المسلمين فى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سهلاً. كان الإسلام متجذرًا منذ قرون، لكن الدولة السوفيتية فرضت قيودًا صارمة: إغلاق المساجد، حظر التعليم الدينى، وملاحقة العلماء. ومع ذلك، بقيت الهوية الإسلامية حية فى البيوت والقرى.
حين ضغط عبد الناصر على موسكو لفتح الباب أمام الأزهر، لم يكن يخدم مصر فقط، بل لبّى حاجة ملحة لعشرات الملايين من المسلمين الذين كانوا يتوقون إلى كلمة قرآن ودرس دينى. لقد كان ذلك بمثابة كسر للحظر الصارم، وإن لم يُلغِ القيود كلية.
مواجهة أنيس منصور وأشباهه
فى المقابل، نسمع روايات من بعض الكُتّاب – مثل أنيس منصور – تتحدث عن "إلحاد عبد الناصر" أو "استخفافه بالدين". والسؤال البديهى:
إذا كان أنيس منصور يملك هذه الروايات، فلماذا لم يجرؤ على قولها فى حياة الزعيم؟ لماذا صمت طيلة عهده، وظل من أبرز المصفقين له، ثم انقلب بعد رحيله ليطلق سهام الاتهامات؟
التاريخ لا يرحم، والشهادات المتأخرة التى تخرج بعد موت صاحبها تظل موضع شك. أما شهادة ضياء الدين داود، فقد جاءت من رجل دولة عاش اللحظة وروى تفاصيلها، لتفند بموضوعية أكذوبة "إلحاد عبد الناصر".
الخلاصة: زعيم مؤمن لا ملحد
إن الواقعة التى نقلها داود تكشف عن جوهر شخصية عبد الناصر. لم يكن ملحدًا كما روج خصومه، بل زعيمًا مؤمنًا بدور الدين، حريصًا على أن يصل صوت الإسلام إلى أبعد مدى. صحيح أنه تحالف مع الاتحاد السوفيتي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لكنه لم يساوم على الهوية الدينية للأمة.
لقد كان عبد الناصر قائدًا يفكر بعقلية الدولة الكبرى، ويتعامل مع الإسلام كدينه الذى يؤمن به كجزء من قوتها الناعمة، يحمى به المسلمين فى الداخل والخارج. ومن يراجع قراراته تجاه الأزهر يدرك أنه أعاد له الدور العالمى، وفتح له أبوابًا ما كانت لتفتح لولا إرادته.
وبين الشهادة والافتراء، تبقى الحقيقة: عبد الناصر كان زعيمًا مؤمنًا، لم ينسَ أن ملايين المسلمين ينتظرون كلمة من الأزهر، حتى وهو يتعامل مع أكبر قوة شيوعية فى العالم.